الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على قائد
الغر المحجلين إلى جنات النعيم، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله الأطهار،
وصحابته الكرام، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن شهر رمضان شهر مبارك، وهو شهر الفضائل والخيرات, ورفع المنازل، وتكثير الحسنات،
وقد كان السلف عليهم - رحمة الله - يهتمون برمضان اهتماماً بالغاً، ويحرصون كل
الحرص على استغلاله في عمل الطاعات التي تقربهم من رب الأرض والسماوات، وقبل أن
نشير إلى حال السلف مع رمضان نشير إلى حال قدوة السلف والناس أجمعين محمد بن عبد
الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان كما يحكيه ابن القيم - رحمه الله تعالى -
فيقول: "وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان: الإكثار من أنواع
العبادات، فكان جبريل - عليه الصلاة والسلام - يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا
لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجـود الناس، وأجود ما يكون في
رمضان، يكثر فيـه الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف,
وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه
أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة"1.
ولعل من أهم العبادات التي ينبغي علينا أن نجتهد فيها هي عبادة قراءة القرآن
الكريم، فهي عبادة مضاعفة الأجر والدرجات الحرف بعشر حسنات كما جاء عن ابن مسعود -
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة
بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))2.
ولقد كان حال السلف - رحمهم الله - مع القرآن في رمضان حال المستنفر نفسه لارتقاء
الدرجات العالية؛ فهذا أبي بن كعب - رضي الله عنه - ورد: "أنه كان يختم القرآن في
كل ثمان, وعن تميم الداري - رضي الله عنه -: أنه كان يختمه في كل سبع, وعن عثمان بن
عفان - رضي الله عنه -: أنه كان يحيى الليل كله فيقرأ القرآن في كل ركعة"3,
وروي عن الشافعي - رحمه الله - أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في
الصلاة، قال الربيع: "كان الشافعي يختم كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان ستين ختمة؛
سوى ما يقرأ في الصلاة"4،
وكان الإمام البخاري - رحمه الله - إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه
أصحابه فيصلي بهم، ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن, وكان
يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن فيختم عند الإفطار كل ليلة، ويقول:
"عند كل الختم؛ دعوة مستجابة"5.
وكان إبراهيم النخعي - رحمه الله -: "يختم القرآن في شهر رمضان في كل ثلاث، فإذا
دخلت العشر ختم في ليلتين، واغتسل كل ليلة"6,
وكان علي الأزدي - رحمه الله -: "يختم القرآن في رمضان كل ليلة، وكان ينام ما بين
المغرب والعشاء"7.
وقد يتبادر إلى ذهن أحدنا إشكال فيقول: قد جاء النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- في ذم من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:
"اقرؤوا القرآن في سبع ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث, وليحافظ الرجل في يومه وليلته
على جزئه، وعن ابن مسعود أنه كان يختم القرآن في رمضان في ثلاث وفي غير رمضان من
الجمعة إلى الجمعة, فكيف بهؤلاء الصحابة وأئمة الهدى يخالفون ذلك؟
وعلى ذلك يجيب الحافظ ابن رجب - رحمه الله - فيقول: "وإنما ورد النهي عن قراءة
القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان
خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها
من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو
قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم"8
يعني من السلف الذين كانوا يقرؤون القرآن في أقل من ثلاث ليال وذلك في رمضان وفي
العشر الأواخر منه.
هذا هو رمضان السلف؛ وهم فيه سباقين إلى الخير، تائبين إلى الله - تبارك وتعالى -
من الخطايا والذنوب في كل حين، وما من مجال من مجالات البر إلا ولهم فيه اليد
الطولى، وأما رمضان الخلف فحال بعضهم يندى له الجبين، ويتقطع القلب حسرة، نهارهم
نوم, وليلهم سهر في القيل والقال, وتضييع للأوقات, وإنما أشرنا إلى جملة من حال
السلف مع رمضان لتشحذ الهمم بمحاولة اللحاق بهم، حيث قد أوجب الله - تبارك وتعالى -
علينا أن نؤمن كما آمنوا، وأن نعمل كما عملوا، فإن فعلنا ذلك كنا من المهتدين:
{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ
اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }9,
والآية تدل على أننا إذا لم نؤمن كما آمنوا فإننا بعيدون عن الهداية، ولا يمكننا
تحصيل الهداية إلا بأن تكون مستقاة من كتاب ربنا - تبارك وتعالى -، وسنة نبينا -
صلى الله عليه وسلم -، على وفق فهم وعمل سلف الأمة الصالح من الصحابة، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين.
نسأل الله - تبارك وتعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستعملنا في طاعته، وأن
يجنبنا معصيته، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يوفقنا لقيام رمضان،
وصيامه إيماناً واحتساباً، وأن يجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر، وأن يقينا شرور
أنفسنا, والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.