فها هي العبرات قد سالت على خدّ النبي صلى الله عليه وسلم
شاهدةً بتعظيمة ربّه وتوقيره لمولاه ، وهيبته من جلاله ، عندما
كان يقف بين يديه يناجيه ويبكي ، ويصف أحد الصحابة ذلك المشهد فيقول
" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ وفي صدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء }
رواه النسائي
وهو الصوت الذي يصدره الوعاء عند غليانه
وتروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها موقفاً آخر فتقول
قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم
ليلةً من الليالي
فقال
( يا عائشة ذريني أتعبد لربي ) ،
فتطهّر ثم قام يصلي ،
]فلم يزل يبكي حتى بلّ حِجره ، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ لحيته ، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض
وجاء بلال
رضي الله عنه يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله ، تبكي وقد
غفر الله لك ما تقدم منذنبك وما تأخر ؟ فقال له :
( أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ )
رواه ابن حبّان .
وسرعان ما كانت الدموع تتقاطر من عينيه إذا سمع القرآن :
روى لنا ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال
" قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اقرأ عليّ ) ، قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ، فقال : ( نعم ) ،
فقرأت سورة النساء
حتى أتيت إلى هذه الآية : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }
( النساء : 41 )
]فقال : ( حسبك الآن )
فالتفتّ إليه ، فإذا عيناه تذرفان "
رواه البخاري .
كما بكى النبي – صلى الله عليه وسلم –
اعتباراً
بمصير الإنسان بعد موته ، فعن البراء بن عازب ضي الله عنه قال : " كنا مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة ، فجلس على شفير القبر أي
طرفه، فبكى حتى بلّ الثرى ،
ثم قال : ( يا إخواني لمثل هذا فأعدّوا )
رواه ابن ماجة ،
]وإنما كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بمثل هذه الشدّة لوقوفه
على أهوال القبور وشدّتها ،
ولذلك قال في موضعٍ آخر :
( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ) متفق عليه.
وبكى النبي – صلى الله عليه وسلم – رحمةً بأمّته وخوفاً عليها من عذاب الله ، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ،
يوم قرأ قول الله عز وجل : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }
( المائدة : 118 ) ،
ثم رفع يديه وقال : ( اللهم أمتي أمتي ) وبكى .
وفي غزوة بدر دمعت عينه - صلى الله عليه وسلم – خوفاً من أن يكون ذلك اللقاء مؤذناً بنهاية المؤمنين وهزيمتهم على يد أعدائهم ،
كما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله :
]" ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح ) رواه أحمد .
وفي ذات المعركة بكى النبي – صلى الله عليه وسلم -
يوم جاءه العتاب الإلهي بسبب قبوله الفداء من الأسرى
قال تعالى
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }
( الأنفال : 67 )
حتى أشفق عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كثرة بكائه
ولم
تخلُ حياته – صلى الله عليه وسلم – من فراق قريبٍ أو حبيب ، كمثل أمه آمنة
بنت وهب ، وزوجته خديجة رضي الله عنها ، وعمّه حمزة بن عبدالمطلب رضي الله
عنه ، وولده إبراهيم ، أوفراق غيرهم من أصحابه ، فكانت عبراته شاهدة على
مدى حزنه ولوعة قلبه .
]فعندما قُبض إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم –
بكى وقال :
( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) متفق عليه
]ولما أراد النبي – صلى الله عليه وسلم
زيارة قبر أمه بكى بكاءً شديداً حتى أبكى من حوله ثم قال :
( زوروا القبور فإنها تذكر الموت)
رواه مسلم .
ويوم
أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن صبياً لها يوشك أن يموت ، لم يكن موقفه
مجرد كلمات توصي بالصبر أو تقدّم العزاء ، ولكنها مشاعر إنسانية
، خصوصاً في اللحظات التي رأى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم - الصبي يلفظ أنفاسه الأخيرة
]وكان جوابه عن سرّ بكائه
]( هذه رحمة جعلها الله ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء
]رواه مسلم
ويذكر أنس رضي الله عنه نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه يوم مؤتة ،
حيث قال عليه الصلاة والسلام :
( أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله )
رواه البخاري
]ومن
تلك المواقف النبوية نفهم أن البكاء ليس بالضرورة أن يكون مظهراً من مظاهر
النقص ، ولا دليلاً على الضعف ، بل قد يكون علامةً على صدق الإحساس ويقظة
القلب وقوّة العاطفة ، بشرط أن يكون هذا البكاء منضبطاً بالصبر ، وغير
مصحوبٍ بالنياحة ، أو قول ما لا يرضاه الله تعالى .
الأحد 20 مارس 2011 - 17:34 من طرف wissam2011